فاروق بلوفة يترك لنا “نهلة” ويرحل

توفي المخرج الجزائري فاروق بلوفة يوم 9 أفريل الماضي، صاحب الفيلم الوحيد “نهلة”، وحيداً في باريس، في منفاه الاختياري منذ أزيد من ثلاثة عقود.

منسياً من طرف الجميع، حتى أن الصحافة هنا لم تسمع بالخبر سوى أمس، الاثنين 16 أفريل، عندما أعلنت الكاتبة وسيلة تمزالي الخبر على صفحتها.

لكن من يكون فاروق بلوفة؟

وُلد فاروق بلوفة سنة 1947، في واد الفضة، وتخرج في باريس بشهادة عُليا في نظرية السينما تحت يد المفكر الفرنسي رولان بارت، أخرج فيلماً أولاً عن ثورة التحرير بعنوان Insurrectionnelle سنة 1973، ولكن الرقيب الجزائري منعه من الخروج إلى النور لأنّ مقاربته “ماركسية” جداً حسب ما ورد في التقرير، ثم تم تدمير الشريط الأصلي. عمل بلوفة بعد هذا كمخرج مساعد للمصري يوسف شاهين في فيلمه الشهير “عودة الابن الضال” (1976).

بعد هذه التجارب أتى فيلمه الروائي الطويل الوحيد والشهير: “نهلة” (1979)، الفيلم الذي صُوِّرَ في عِزّ الحرب الأهلية اللبنانية، وهو من الأفلام الجزائرية القليلة (إن لم يكُن الوحيد) التي تحكي قصة غير محلية، ولكنّها تصنع منها صورة لطموحات ومآسي جيلٍ كامل.

دعونا نتحدّث قليلاً عن “نهلة”؛ اكتشفت الأجيال الجديدة هذا الفيلم مع انتشار الأنترنت في سنوات 2010، عندما كان اسم بلوفة قد صار شبحاً في الذاكرة، ودهشنا ونحن نرى فيلماً جزائرياً، عليه اسم مُخرج غير معروف، يحكي بدايات الحرب الأهلية اللبنانية، دهشنا ونحن نرى جزائريين مثلنا يخرجون بالكاميرا من حدود البلاد ويُصوّرون حرباً أخرى، طبعاً لم نكُن نعلم نحن الذين أتينا مُتأخرين، أهمية الحرب اللبنانية في تاريخ المنطقة العربية، وكيف كانت التيارات السياسية في كل البلدان معنيةً بها.

لاحقاً، عندما سألتقي أصدقاء بلوفة، أو فقط أشخاصاً من جيله، وبنفس توجهاته السياسية وقتها، سأفهم كيف كان بلوفة عرّافَ جيله وأكثرهم صدقاً وفنّاً، لا أكتب هذه الكلمات اليوم كرثاء للرجل، بل هو دينٌ أسَدِّدُه لفنانٍ كبير. خرج بلوفة في السبعينات بالسينما الجزائرية من متاهات عديدة وذهب إلى حيث يذهب الثوار والمتآمرون وأمراء الحروب: بيروت ! وهناك صوّر قصّته.

شكّل فيلم “نهلة” مُنعطفاً في السينما الجزائرية، مُنعطفاً لم يسِر فيه أحدٌ بعد بلوفة، ما عدا طارق تقية -ربما- في فيلمه “ثورة الزنج” (2013) والذي يُعتبر تكريماً والتفاتةً لنهلة الشخصية والفيلم، وإن لم يكُن “ثورة الزنج” بقوّة فيلم بلوفة. لكن المنعطف الحقيقي الذي شكّله الفيلم، هو قبضه على تلك اللحظة من التاريخ، والتي صاغَت المِخيال اللبناني في الذهن الجزائري؛ سأشرح الفكرة، صوّر بلوفة أحلام المئات من اليساريين الجزائريين في السبعينات في الالتحاق بجبهات بيروت وحمل السلاح إلى جانب الفصائل الفلسطينية، كانت الحرب هناك حرباً مفتوحة، والحياة أيضاً، وشعرَ الجميع أن له مكاناً وواجباً هناك .

عبر “نهلة” اكتشفنا نحن أبناء التسعينات أنّ الموسيقار زياد الرحباني قد مثّل في فيلم جزائري منذ السبعينات، اكتشفنا أن يوسف سايح، الذي صار لاحقا صحافياً ثقافياً في قناة رسمية مملّة، كان قد حصل على فرصة عمره عندما مثّل دور الصحافي الجزائري الشاب في بيروت، عرفنا أنّ الفيلم يحكي باللهجة اللبنانية يوميات شباب في مدينة تفورُ فورتها الأخيرة قبل الحرب. حتى أنّ كاتب هذه السطور عندما سيذهب في مهمّة صحافية إلى بيروت -40 سنة بعد تصوير الفيلم- سيُحاول تخيّل نفسه بطل فيلم نهلة مُتجوّلاً في مدينة تأسره ولا يفهمها.

صوّرَ بلوفة “نهلة” وصمَت، عانى الظلم والرقابة في جزائر الثمانيات والحزب الواحد، هاجر إلى فرنسا واشتغل في التلفزيون، ثم صوّر فيلماً قصيراً بعد عقود من الصمت، لكن كل هذا كان قد انتهى. ذهبت السبعينات، وبيروت الحرب، ونهلة… لاحقاً، عندما سافرت إلى بيروت عرفتُ صدفة من صديقة أن ياسمين خلاّط (اللبنانية التي مثّلت دور نهلة) هي رئيستها في العمل، وأنّها لم تستمر فعلاً في التمثيل بعد الفيلم، فكّرت وقتها في أن قدر هذا الفيلم هو أن يجمع بشراً مختلفين مرةً واحدة وإلى الأبد ثم يُفرّقهم كل لمصير مُختلف.

لا أدري ماذا يُمكننا أن نفعل لفاروق بلوفة اليوم في الجزائر، هو الذي دُفِن في مقبرة فرنسية بتييه (Thiais)، لكنّه فعل الكثير من أجل السينما، ومن أجلنا، هنالك حتى من سمّوا بناتهم نهلة، هنالك من دخلوا الصحافة لأجل “نهلة”، وهنالك من عشقوا بيروت سماعاً لأجل “نهلة” أيضاً… لا أدري ماذا يُمكننا أن نفعل سوى أن نُعيد مشاهدة “نهلة” ونشكر يوتيوب والأنترنت.