الجزائر – جمعة المظاهرات الثانية: بطلٌ وحيدٌ هو الشعب
قبل غروب الشمس، عندما صار شارع سويداني بوجمعة كله دخان وتراب، بعدما كُنت قد رأيت الفرح والألوان والغناء في الشوارع السفلية لوسط الجزائر، وبعد أن صعدت حتى بداية المرادية وبقيتُ على الرصيف أشاهد الهتافات وهي تُعوّض بصرخات المتظاهرين وهم ينظمون بعضهم ويشتمون عُنف الشرطة وخيانة بعض “المندسّين”، رأيت شابّتين تتحركان بين المتظاهرين، رغم كل الهلع والخوف الذي حصل من الاندفاعات والدحس بعد أن تراجع المتظاهرون هربا من الرصاص المطاطي والغاز: واحدة كانت تحمل زجاجة خل والأخرى كانت تُصوّر وهي تحضن حقيبتها.
الشرطة تقطع الطريق
نبدأ من الأول… 1 مارس، الساعة العاشرة صباحًا: بعد أسبوع من مظاهرات 22 فيفري، وبعد عدّة مظاهرات عبر كل البلاد وفي العاصمة بالتحديد، كان الجميع يعرف أن اليوم سيكون مختلفًا ويومًا “تاريخيًا” جديدًا، خاصة بعد المكالمة المسربة لمدير حملة بوتفليقة -سلال- مع رجل الأعمال علي حداد، ولكن أيضًا لأن الجمعة على بُعد يومين من موعد تقديم ملف ترشح بوتفليقة. هذه المرّة قضيتُ ليلتي في أعلى المدينة، في حيدرة، حتى يكون الوصول إلى وسط الجزائر سهلًا. نزلتُ قبل موعد المظاهرات (الثانية زوالًا) بساعة. نزلتُ مشيًا مع صديقة وصديق. كانت الطرق فارغة، إلا من بعض المواطنين، نساء وشيوخ وشباب، كان ظاهرًا من مشيتهم ووجهتهم أنهم متجهون جميعهم إلى المظاهرات. عبرنا ميدان سلفادور ألندي، وأخذنا طريقًا مختصرًا يُنزلنا نحو ميدان أديس بابا ومن هناك كُنّا سننحدرُ نحو ساحة أول ماي. المظاهرات كانت قد انطلقت قبل موعد الصلاة، وفي طريقنا نحو أديس بابا أوقفتنا سيارة ليقول لنا سائقها: “ما تهبطوش منا راهم يفتشو ف الناس.”
استدرنا ونزلنا حتى شارع سويداني بوجمعة الذي يصعد إلى المرادية، ويمرُّ عبر فندق الجزائر، وجدنا أفواجًا كبيرة من شرطة قمع المظاهرات، بعضهم كان يحملُ أوراقًا وأعلامًا وطنية، فهمنا أنهم صادروها من متظاهرين. نزلنا حتى ميدان أديس بابا ولكننا فوجئنا بالشرطة تمنعنا بحزم من التقدم، كنّا ربما عشرين شخصًا. المظاهرات كانت قد انطلقت والساعة لم تصل بعد الثانية زوالًا، صعدنا مرّة أخرى إلى شارع الشهداء، عبرنا من أمام الإذاعة وتقدمنا إلى آخر الشارع ومن هناك أخذنا طُرقًا مختصرة وسلالم ضيّقة وطويلة حتى وصلنا أمام قاعة حرشة، وطيلة النزول كُنا نسمع الصوت البعيد للمتظاهرين.
ربراب وسط “سلمية… سلمية”
كان الجميع يُهرول نحو ساحة أول ماي، والشرطة تُحاول تعطيل الحركة وغلق بعض الشوارع، تجاوزنا الساحة ومشينا خلف المظاهرة في شارع حسيبة بن بوعلي. مشينا حتى ساحة “حرية الصحافة” لنفاجئ بانقسام في المظاهرة، استدرتُ لأجد أحد أقربائي (رجلٌ اقترب من الستين، أستاذ رياضة متقاعد، لم يكُن مُسيّسًا بالضرورة، يعيشُ في على بُعد 30 كلم من وسط الجزائر) سلّمتُ عليه فقال أنه جاء مع جيرانه وكان سعيدًا وهو يُردّد: “يا هوما يا حنا، الشعب راهو برّا، bien fait pour leurs gueules.” سألته لماذا انقسمت المظاهرة فأخبرني أن يسعد ربراب (أثرى رجل في الجزائر) التحق بها، والصحافة والمتظاهرون تحلّقوا من حوله. كان يتظاهر ملفوفًا بعلم الجزائر وبعددٍ من الحراس الشخصيين.
واصلنا التقدم وسط الهتافات التي تردّ على تصريح الوزير الأول: “يا أويحيى يا راس الحمار… دزاير ماشي سوريا”، اتصلتُ بصديقة حضرت من بلدٍ آخر للمشاركة في المظاهرات كانت تنتظرنا فوق النفق –الذي أغلقته الشرطة عكس المرة الماضية- سرنا معها وأصدقاءها وتقدمنا على طول شارع العقيد عميروش، وجدنا الشرطة تُغلق الطريق على مستوى حديقة صوفيا لتمنع المظاهرة من التقدم نحو البرلمان. استدارت المظاهرة مع ساحة خميستي التي كانت ممتلئة عن آخرها، تكلّمتُ مع شيخ كبير في السن، قال أنه مشى من بيلكور ولكنه سيتوقّف الآن لأنّه لا يريد أن يدخل المستشفى، خاصة أن الجزائر ليست جنيف.
الخروج من النفق
المسيرات كانت تتجمع في المسافة بين البريد المركزي وساحة أودان، تدور حول بعضها أو تتجمّع ثم تصعد نحو المرادية. كم كان عدد الناس؟ عشرات أضعاف المرة الماضية، كانت الساعة لم تصل إلى الثالثة زوالًا بينما الطرقات قد امتلأت بالبشر، أضعاف الجمعة الماضية. سرنا في شارع باستور، لا يوجد شبرٌ واحد فارغ على الإسفلت، الشعارات كانت مرفوعة كبيرةٌ وملوّنة وواضحة وبالعربية الفرنسية والإنجليزية. الأجيال الجديدة تتحدّثُ لغات أكثر من مسؤوليها. حاول المتظاهرين إسكات بعضهم أمام مصحّة الحروق كلودين وبيار شولي، لكنهم لم ينجحوا. ثم دخلنا النفق الجامعي وصدحَ الشعار الأكثر شُهرة: “ما كانش الخامسة يا بوتفليقة… جيبو الـ BRI وزيدو الصاعقة.” أربع دقائق ونصف حتى قطعنا نفقًا تقطعه في أقل من دقيقة مشي في الوقت العادي، لكن طبعًا البلاد كلّها تعيشُ أوقاتًا غير عادية. وعندما اقتربنا من المخرج، رأيتُ شارع محمد الخامس بحرًا من المتظاهرين، وكذلك ساحة أودان وشارع ديدوش. شللٌ تام أصاب الشوارع والساحات، الجموع تتقدّم ببطء، والشمسُ فوق رؤوس الجميع.
شعور غريب تملّكني وأنا أشاهد –بعد أسبوع من المظاهرات- الشوارع التي أعرفها وأقطعها كل يومٍ تقريبًا، ماشيًا أو سائقًا، وهي تتغير في الشكل والصوت. بعد أن توقّفنا للتدخين، وبعد أن راقبنا النظرات الصامتة للمارّة تُجاه صديقاتنا البنات المُدّخنات، قررنا أن نتقدم في شارع ديدوش، بالتوزاي مع مظاهرة محمد الخامس. سرنا حتى أعلى شارع ديدوش، الذي صار كلّه متشابهًا وقصيرًا من آلاف البشر الذي يمشون فيه. كل الشعارات ضد بوتفليقة وأويحيى، لكن هنالك كُره خاص تُجاه هذا الأخير. وصلنا إلى كنيسة القلب المقدس، هناك بدأت رائحة الغاز تصل، أخرجنا الخل وصعدنا مع المتظاهرين. كانت قنابل الغاز تُمطر فوق رؤوسنا أمام حديقة الحرية، الشرطة كانت تتراجع نحو الأعلى وترمي بها نحونا. دموع وضيق في التنفس، والناس تصرخ “لاكريموجان…جيب الخل”، الشباب يمنحون أكمام ستراتهم وأقمصتهم لتبليلها بالخل. دُرنا في مكاننا مثل الذباب بعيونٍ مُغمَضة، بعد دقائق قليلة صعدنا الدرج لنجد نفسنا في شارع فرنكلين روزفلت ومنه إلى تيليملي حيثُ تجمّع العديد من المتظاهرين أمام قصر الشعب ومن هناك صعدنا نحو المرادية، عبر الطريق التي منعنا الشرطة من نزولها قبل ثلاث ساعات، كُنّا قد عدنا بين آلاف المتظاهرين وكان على الشرطة أن تتراجع وتقف أمام شاحناتها وهي تسمّع هُتاف: “يا البوليسي وأنت شعبي… نحي الكاسكيطة وارواح معانا.”
خطّ التماس
في الطريق بين ميدان أديس بابا وحاجز الشرطة الذي تمركز تحت شارع شكسبير في المرادية، رأيتُ الفزَع والجرحى لأول مرة. في الأول، شهدتُ التدافع بين المتظاهرين، كانوا يعودون إلى الوراء في طريق صاعد، أي أنهم يعودون على من خلفهم، اتجّهتُ مع مجموعة الأصدقاء إلى السور ووقفنا بين الناس على الرصيف. كان هنالك رجال شرطة القمع يصعدون وينزلون بين المتظاهرين، وهؤلاء يغنّون لهم وبعضهم يصرخ في وجوههم “دراهمكم حرام… راكم تضربوا في خاوتكم.” توجّه أكثر من رجل نحوي بالكلام كي أتوجّه مع “البنات” إلى أسفل، صرتُ فجأةً مُرافقًا للبنات وسط منطقة المواجهات، ولم نَعُد –البنات وأنا- متظاهرين مثل البقية.
تفرّقَ الناس وسط الطريق، اتجّه بعضهم للجلوس في بداية شارع الشهداء، ورأيتُ متظاهرين نازلين من فوق وهم يحملون الجرحى، ضُرِبوا برصاص مطاطي. أحدهم أصابته الرصاصة تحت جفنه، أخطأتْ عينه بأقل من سنتمتر، والآخر فوق ركبته. غُبار ودخان في كل مكان. أحدهم كان يركض وهو يحمل فتاةً تبكي، بعضهم سقط ومشى فوقه بقية الناس. هنا، كما علمتُ في آخر الليل، سجّلَتْ المظاهرة قتيلها الوحيد، السيد حسن بنخدة (60 سنة، مهندس طيران)، نجل بنيوسف بنخدة، ثاني رئيس للحكومة المؤقتة الجزائرية، وأول ضحية لانقلاب أحمد بن بلة في صيف 1962. سقط حسن تحت أقدام المتظاهرين في الاندفاع، وتوقّف قلبه.
حاولنا التقدم في شارع الشهداء، ولكن الشرطة كانت قد أغلقته، خافت على التلفزيون العمومي، سالَت دموعنا مرّة أخرى بسبب الغاز، ورأيتُ الناس تحتمي بمدخل عمارةٍ كُتب أمامه بالفرنسية “بطل واحد هو الشعب.” وفكّرت وأنا أبتعدُ أني رأيتُ اليوم “بطلًا وحيدًا هو الشعب”. وحدةُ الناس في صراخهم، كما في جمالهم في بداية المظاهرة وتواصلها في الأحياء السفلية. بدأ المتظاهرون، أولاد الأحياء الشعبية، رأس حربة المظاهرات ووقودها في النزول من نقطة المواجهات، مئات الشباب بعضهم يريد ضرب رجال الشرطة والبقية يمنعونه ويحمون أفراد الشرطة الذين نزعَ بعضهم خوذاتهم لنرى وجوههم، أولاد الشعب مثلهم مثل البقية لكنهم بعيدون عن الجميع داخل بذلاتهم الزرقاء، لن أنسى وجه الشرطي الأسمر الذي نزع خوذته لتظهر تعابير وجهه: بين البكاء والغضب، كان يتقدّم من دون بوصلة.
من دون بوصلة
في حدود الساعة السادسة، جالسًا أمام محطة البنزين المغلقة جنبَ ميدان أديس بابا، كُنتُ أشاهد أفواج العائدين من المرادية ويسألون بعضهم عن أشخاص فقدوهم وسط الزحام. وجوههم حمراء من الغاز، بعضهم كان حافيًا، فقدَ حذاءه خلال التدافع. الشمسُ كانت قد غربت وفقدَ الجو دفئه، ورغم ذلك كان بعضهم عاريًا. سألتُ أحدهم من أين أتى؟ قال من عين البنيان، كان طويلًأ ونحيلًا، ربما لا يتجاوز 16 عامًا. سألني كيف يُمكن الذهاب إلى باب الواد، قال أنه يعرف أن المرادية تقعُ في الأعلى لكنه لم يرَها، وأنه لا يعرف أنه هو بالتحديد. قلتُ له أن ينزل، ويواصل النزول حتى يجدَ نفسه شارع ديدوش مراد ثم ساحة أودان، قال أنه كيف يذهب من هناك إلى حومته .
بعد هذا الشاب وصل ولدان آخران –12 أو 13 سنة- يضعان لثامًا على وجههما، سألاني: عمّو وين رانا هنا؟ ثم طلبا كيف يُمكن الذهاب إلى باب الواد أيضًا، أعدتُ وصفَ نفس الطريق. سألتهما عمّا حصل فوق، وصفا لي التدافع بين المتظاهرين، وصرخات الشباب “ما تخافوش… ما تجروش”. في الليل قرأتُ ما كتب صديق على فيسبوك، عندما كان عائدًا إلى منزله في الطريق السريع البحري، رأى عشرات الشباب يعودون في الظلام مشيًا على الأقدام، أمام كورنيش “صابلات”، كتب أنه شعر بالعار هو الذي يعود على متنِ سيارته بينما كل من مشوا معه ومن حوله يعودون إلى ضواحيهم البعيدة على أقدامهم بعد أن اعتقلت الشرطة كثيرًا منهم بعد تفرّق المظاهرات. عشراتُ المتظاهرين من دون بوصلة أو خريطة في أعالي مدينة الجزائر التي لم يعرفوها من قبل.
قبل أن أغادر أشعل بعض المتظاهرين النار في وسط الشارع، أمام مدخل فندق الجزائر، كان هنالك غضبٌ كبير في الصدور، ولكن الجميع كان يصرخ حتى لا تتطوّر الأمور أكثر. رأيتُ شبابًا يلبسون سُترات صفراء، أطباء متطوّعون، يدخلون وسط الغاز لإسعاف الجرحى، ورأيتُ آخرين –أولاد أحياء شعبية- يُهدّؤون أصحاب الجرحى، رأيتُ تِنين الدولة يُطلق النار ولا يعرف ماذا يفعل. سمعتُ أن بعض المحلات تكسّرت واجهاتها ونُهِبت في شارع سويداني بوجمعة. انتهى اليوم وتفرّق الجميع، رأيتُ شاحنة الشرطة السوداء الجديدة التي أخرجوها للمرّة الأولى والتي تُصدر صوتًا يُشبه الرعد، عبرتُ من أمام الشرطة التي كانت تحرس جنب سفارة فرنسا، كانت هنالك قمامة مقلوبة على بُعد أمتار تقدّم منها شابٌ يلبس شاش أصفر وقرّبها من القاذورات وبدأ يدفعها إلى الدخل بأقدامه ثم بيديه، وقفتُ أشاهد المارّة يُساعدونه، ثم اقتربتُ لأثبّتَ صندوق القمامة، كان الجميع غاضبًا ومستاءً ولكنهم كانوا يعرفون أنهم خرجوا سلميين. وضعنا القاذورات في القمامة ووضعناها على جنب وتقدمّنا نحو أقرب مكانٍ لنأكل ونشرب شيئًا.